الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
انتهى. وهذه الرواية للبيت غير رواية المبرد. وروى صاحب الأغاني خبر هذا اليوم بسنده إلى هشام بن الكلبي عن أبيه وغيره من أشياخ طيئٍ، بأبسط من رواية المبرد، مع مخالفة قال: كان من حديث يوم أوارة أن عمرو بن المنذر بن ماء السماء، وهو عمرو بن هند، كان يعرف بأمه هندٍ بنت الحارث الملك المقصور بن حجر آكل المرار الكندي، وهو الذي يقال له: مضرط الحجارة، أنه كان عاقد هذا الحي من طيئ على أن لا ينازعوا ولا يفاخروا ولا يغيروا. وأن عمرو بن هندٍ غزا اليمامة فرجع منفضاً، فمر بطيئ، فقال له زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم الحنظلي: أبيت اللعن، أصب من هذا الحي شيئاً. قال له: ويلك إن لهم عقداً. قال: وإن كان. فلم يزل به حتى أصاب مالاً ونسوة وأذواداً، فذمه قيس بن جروة الطائي بقصيدة على نقض عهده، فبلغت عمرو بن هند فغزا طيئاً. فأسر أسرى من طيئ من بني عدي بن أخزم، وهم رهط حاتم بن عبد الله، وفيهم قيس بن جحدر، وهو جد الطرماح بن حكيم، وهو ابن خالة حاتم، فوفد حاتمٌ فيهم إلى عمرو بن هند، فوهبهم له. ثم إن المنذر بن ماء السماء وضع ابناً له صغيراً، ويقال: بل كان أخاه صغيراً يقال له: مالك، عند زرارة، وإنه خرج ذات يوم يتصيد فأخفق ولم يصب شيئاً، فمر بإبلٍ لرجل من بني عبد الله بن دارم، يقال له: سويدٌ. وكانت عند سويد ابنة زرارة بن عدس، فولدت له سبعة غلمة، فأمر مالك بن المنذر بناقة سمينة منها، فنحرها، ثم اشتوى، وسويدٌ نائم، فلما انتبه شد على مالك بعصاً فضربه فأمه. ومات الغلام. وخرج سويدٌ هارباً حتى لحق بمكة وعلم أنه لا يأمن، فحالف بني نوفل بن عبد مناف، فاختط بمكة، وكانت طيئ تطلب عثرات زرارة وبني أبيه حتى بلغهم ما صنعوا بأخي الملك، فأنشأ عمرو بن ثعلبة بن ملقط الطائي، يقول مجزوء الكامل: من مبلغٌ عمراً بأ *** ن المرء لم يخلق صباره وحوادث الأيام لا *** يبقى لها إلا الحجاره أن ابن عجزة أمه *** بالسفح أسفل من أواره تسفي الرياح خلال كش *** حيه وقد سلبوا إزاره فاقتل زرارة لا أرى *** في القوم أوفى من زراره والصبارة: بالضم: الحجارة، وقيل: بالفتح جمع صبار، والهاء لجمع الجمع، لأن الصبار جمع صبرة بالفتح، وهي حجارة شديدة. كذا في الصحاح. وأوارة بالضم: اسم ماء وإليه نسب ذلك اليوم. والعجزة، بالكسر: آخر ولد الرجل، عنى به أخاه. ويقال لأول ولد الرجل: زكمةٌ بالضم. فلما بلغ العشر عمرو بن هند، بكى حتى فاضت عيناه، وبلغ الخبر زرارة فهرب، وركب عمرو بن هندٍ في طلبه فلم يقدر عليه، فأخذ امرأته وهي حبلى، وقال: ما فعل زرارة الغادر الفاجر؟ قالت: إن كان ما علمت لطيب العرق، سمين المرق، ويأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد؛ ولا ينام ليلة يخاف، ولا يشبع ليلة يضاف! فبقر بطنها، فقال قوم زرارة لزرارة: والله ما قتلت أخاه، فأت الملك فاصدقه الخبر. فأتاه زرارة فأخبره الخبر، فقال: جئني بسويد. فقال: قد لحق بمكة. فقال: علي ببنيه. فأتاه ببنيه السبعة وبأمهم بنت زرارة وهم غلمةٌ، فتناولوا أحدهم فضربت عنقه، وتعلق بزرارة الآخرون، فتناولوهم وقتلوا. وآلى عمرو بن هند ليحرقن من بني حنظلة مائة رجلٍ، فخرج يريدهم، وبعث على مقدمته عمرو بن ملقطٍ الطائي، فأخذ منهم ثمانية وتسعين رجلاً بأسفل أوارة من ناحية البحرين فحبسهم، ولحقه عمرو بن هند حتى انتهى إلى أوارة، فأمر لهم بأخدودٍ، ثم أضرمه ناراً، وقذف بهم فيها فاحترقوا. وأقبل راكبٌ من البراجم - وهم بطن من بني حنظلة - عند المساء لا يدري بشيء مما كان، فقال له عمرو بن هند: ما جاء بك؟ فقال: حب الطعام، قد أقويت ثلاثاً لم أذق طعاماً، فلما سطع الدخان ظننته دخان طعام. فقال له عمرو: ممن أنت؟ قال: من البراجم. فقال عمرو: إن الشقي وافد البراجم، فذهبت مثلاً. ورمي به في النار. فهجت العرب تميماً بذلك، فقال ابن الصعق العامري: ألا أبلغ لديك بني تميمٍ *** بآية ما يحبون الطعاما وأقام عمرو بن هند لا يرى أحداً، فقيل له: أبيت اللعن، لو تحللت بامرأة منهم! فدعا بامرأة منهم فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا الحمراء ابنة ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل. فقال: إني لأظنك أعجمية. فقالت ما أنا بأعجمية، ولا ولدتني العجم الرجز: إني لبنت ضمرة بن جابر *** سادا معداً كابراً عن كابر إني لأخت ضمرة بن ضمره *** إذا البلاد لفعت بغمره فقال عمرٌو: والله لولا مخافة أن تلدي مثلك لصرفتك عن النار! قالت: أما والذي أسأله أن يضع وسادك، ويخفض عمادك، ويسلبك ملكك، ويقرب هلكك، ولا أبالي ما صنعت! فقال: اقذفوها في النار: فأحرقت. انتهى ما أورده صاحب الأغاني مختصراً. قال ابن قتيبة في خطبة أدب الكتاب: مازح معاوية بن أبي سفيان الأحنف ابن قيس، فما رئي مازحان أوقر منهما، فقال له: يا أحنق ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: السخينة يا أمير المؤمنين. أراد معاوية قول الشاعر: إذا ما مت ميتٌ من تميمٍ *** فسرك أن يعيش فجئ بزاد بخبزٍ وبلحمٍ وبتمرٍ *** والشيء الملفف في البجاد تراه يطوف الآفاق حرص *** ليأكل رأس لقمان بن عاد والملفف في البجاد: وطب اللبن. وأراد الأحنف أن قريشاً كانت تعير بأكل السخينة، وهي حساء من دقيق يتخذ عند غلاء السعر وعجف المال، وكلب الزمان. انتهى. قال ابن السيد في شرحه: هذا الشعر ليزيد بن عمرو بن الصعق، وذكر الجاحظ أنه لأبي المهوش الأسدي. والذي اقتضى ذكر الشيء الملفف في البجاد وذكر السخينة في هذه الممازحة، أن معاوية كان قرشياً، وكانت قريش تعير بأكل السخينة. وكان السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث فيهم فكفروا به دعا الله عليهم، وقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف !. فأجدبوا سبع سنين، فكانوا يأكلون الوبر بالدم ويسمونه العلهز. وكان أكثر قريش إذ ذاك يأكلون السخينة، فكانت قريش تلقب سخينة؛ ولذلك يقول كعب بن مالك الكامل: زعمت سخينة أن ستغلب ربه *** وليغلبن مغالب الغلاب وذكر أبو عبيدة أن قريشاً كانت تلقب سخينة لأكلهم السخن، وأنه لقب لزمهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على صحة ما ذكر قول خداش بن زهير، ولم يدرك الإسلام البسيط: يا شدة ما شددنا غير كاذبةٍ *** على سخينة لولا الليل والحرم وأما الأحنف بن قيس فإنه كان تميمياً، وكانت تميم تعير حب الطعام وشدة الشرة، وكان السبب الذي جر ذلك أن أسعد بن المنذر، أخا عمرو بن هند، كان مسترضعاً في بني دارم. إلى آخر ما رواه المبرد في الكامل. وقال السهيلي في الروض الأنف: قول كعب: جاءت سخينة كي تغالب ربه *** البيت كان هذا الاسم مما سميت به قريش قديماً، ذكروا أن قصياً كان إذا ذبحت ذبيحة ونحرت نحيرة بمكة أتي بعجزها فيصنع منه خزيرة، وهو لحم يطبخ ببر، فيطعمه الناس، فسميت قريش سخينة. وقيل: أن العرب كانوا إذا أسنتوا أكلوا العلهز، وهو الوبر والدم، وتأكل قريش الخزيرة واللفيتة، فنفست عليهم العرب ذلك فلقبوهم سخينة. ولم تكن قريشٌ تكره هذا اللقب، ولو كرهته ما استجاز كعب أن يذكره ورسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، ولتركه أدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان قرشياً. ولقد استنشد عبد الملك بن مروان ما قاله الهوازني في قريش: يا شدة ما شددنا غير كاذبةٍ *** البيت فقال: ما زاد هذا على أن استثنى. ولم يكره سماع التلقيب بسخينة. فدل على أن هذا اللقب لم يكن مكروهاً عندهم، ولا كان فيه تعيير لهم. انتهى. والعلهز، بكسر العين المهملة وسكون اللام وكسر الهاء بعدها زاي معجمة. والخزيرة، بفتح الخاء وكسر الزاي المعجمتين ثم راء مهملة. قال في الصحاح: الخزيرة: أن تنصب القدر بلحم يقطع صغاراً على ماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق. فإن لم يكن فيها لحمٌ فهي العصيدة. وقال ابن السيد: قوله: إذا ما مات ميت إلخ، فيه ردٌّ على أبي حاتم السجستاني، فإنه كان يقول: قول العامة مات الميت خطأ، والصواب مات الحي. وهذا الذي أنكره غير منكر، لأن الحي قد يجوز أن يسمى ميتاً لأن أمره يؤول إلى الموت. قال تعالى: {إنك ميتٌ وإنهم ميتون}. ومثله كثير. وقد فرق قومٌ بينهما، فقالوا: الميت بالتشديد: ما سيموت، والميت بالتخفيف: ما قد مات. وهذا خطأ فإن المشدد أصل المخفف، والتخفيف لم يحدث فيه شيئاً يغير معناه. وقد استعملتهما العرب من غير فرق. قال الشاعر الخفيف: ليس من مات فاستراح بميتٍ *** إنما الميت ميت الأحياء وقال ابن قعاسٍ الأسدي الوافر: ألا يا ليتني والمرء ميت *** وما يغني عن الحدثان ليت ففي البيت الأول سوى بينهما، وفي الثاني جعل المخفف الحي الذي لم يمت. ألا ترى أن معناه والمرء سيموت، فجرى مجرى قوله تعالى: {إنك ميتٌ وإنهم ميتون}. وقوله: بخبز وبتمر وبسمن: بدل من قوله: بزاد. والملفف في البجاد: وطب اللبن يلف فيه ويترك حتى يروب. والوطب: زق اللبن خاصة. والبجاد: الكساء فيه خطوط. وقوله: حرصاً: مصدر وقع موقع الحال، ومفعول لأجله. وإنما ذكر لقمان بن عادٍ لجلالته ولعظمه، يريد أنه لشدة نهمه وشرهه إذا ظفر بأكلةٍ فكأنه قد ظفر برأس لقمان، لسروره بما نال، وإعجابه بما وصل إليه. وهذا كما يقال لمن يزهى بما فعل، ويفخر بما أدرك: كأنه قد برأس خاقان! وهذا الكلام الذي جرى بين معاوية والأحنف يسمى التعريض، لأن كل واحد منهما عرض بصاحبه بما تسب به قبيلته من غير تصريح. ويشبه ذلك ما يروى، من أن شريك بن عبد الله النميري، ساير عمر بن هبيرة الفزاري يوماً، فبدرت بغلة شريك، فقال له ابن هبيرة: غض من لجام بغلتك. فقال له شريك: إنها مكتوبة. فضحك ابن هبيرة، وقال: لم أرد ما ذهبت إليه. عرض ابن هبيرة بقول الشاعر الوافر: فغض الطرف إنك من نميرٍ *** فلا كعباً بلغت ولا كلابا وعرض شريط بقول سالم بن دارة البسيط: لا تأمنن فزارياً خلوت به *** على قلوصك واكتبها بأسيار وكان بنو فزارة ينسبون إلى غشيان الإبل. وقوله: تعير بأكل السخينة، بالباء. وقد منعه ابن قتيبة، قال: تقول: عيرته كذا ولا تقول عيرته بكذا. والصحيح أنهما لغتان، وإسقاط الباء أفصح. والحساء والحسو: لغتان. والعجف: الضعف والهزال. وأراد بالمال هنا الحيوان، وكذلك تستعمله العرب في الأكثر، وقد يجعل اسماً لكل ما يملكه الإنسان من ناطق وصامت، قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} وقال تعالى: والذين في أموالهم حقٌّ معلومٌ للسائل والمحروم. فالمال فيهما عامٌّ لكل ما يملك. وكلب الزمان: شدته، وأصل الكلب سعار يصيب الكلاب، فضرب بذلك مثلاً للزمان الذي يذهب بالأموال ويتعرق الأجسام، كما سموا السنة الشديدة ضبعاً، تشبيهاً لها بالضبع. وقالوا: أكله الدهر، وتعرقه الزمان، كما قال البسيط: أبا خراشة أما أنت ذا نفرٍ *** فإن قومي لم تأكلهم الضبع وترجمة يزيد بن الصعق تقدمت في الشاهد التاسع والستين. وأنشد بعده البيسط: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت *** حمامةٌ في غصونٍ ذات أوقال وتقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائتين. وضمير منها راجع للوجناء، وهي الناقة الشديدة. والشرب: مفعول يمنع، وغير فاعله، لكنه بني على الفتح جوازاً لإضافته إلى مبني. وروى الرفع أيضاً فلا شاهد فيه. وأراد بنطقت صوتت، مجازاً. وفي بمعنى على. وذات بالجر صفة لغصون. والأوقال: جمع وقل بفتح فسكون، وهو ثمر الدوم اليابس، فإن كان ثمره طرياً فاسمه البهش. يريد: لم يمنعها أن تشرب الماء غير ما سمعت من صوت حمامة فنفرت. يريد أنها حديدة النفس، يخامرها فزع وذعر لحدة نفسها، وهو محمود فيها. وأنشد بعده الخفيف: غير أني قد استعين على اله *** م إذا خف بالثوي النجاء وتقدم هذا أيضاً مشروحاً في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائتين. وغير للاستثناء المنقطع مما قبله، فيحتمل أن تكون الفتحة فيه للبناء وفيه الشاهد، ويحتمل أن تكون نصباً فلا شاهد فيه. وقوله: قد استعين بنقل فتحة الهمزة إلى دال قد. وخف بمعنى ذهب وأسرع. والثوي: مبالغة ثاوٍ بمعنى مقيم. والنجاء، بفتح النون بعدها جيم: المضي والسرعة، والباء للتعدية. أي: إذا اضطر المقيم السفر وأقلقه السير والمضي. وأنشد بعده: الكامل: بأذل حيث يكون من يتذلل على أن أبا علي قال في كتاب الشعر: إن جملة يكون صفة ل حيث لا أنها مضاف إليه. لأن حيث هنا اسم بمعنى موضع، لا أنها باقية على الظرفية. وكتاب الشعر يقال له: إيضاح الشعر، وإعراب الشعر أيضاً. وقد تكلم على هذا المصراع وأجاد الكلام فيه، فينبغي أن نثبته هنا إيضاحاً له. والمصراع من قصيدة طويلة عدتها تسعة وتسعون بيتاً للفرزدق، هجا بها جريراً. ولا بد من نقل بيتين منها ليتضح معناه، وهما: إنا لنضرب رأس كل قبيلةٍ *** وأبوك خلف أتانه يتقمل يهز الهرانع عقده عند الخصى *** بأذل حيث يكون من يتذلل قال أبو علي: أنشده بعض البغداديين، وزعم أن حيث يكون اسماً، والقول في ذلك أن أفعل لا يضاف إلا إلى ما هو بعضه، فإذا كان كذا فإنه يراد به الموضع، لأنه مضاف إلى مواضع، وجاز أن يراد بحيث الكثرة لإبهامها، كما تقول أفضل رجل. وكذلك لما أضاف أذل صار كأنه قال: بأذل موضع، فحيث موضع، ولا يجوز مع الإضافة إليها أن تكون ظرفاً كقولك: يا سارق الليلة أهل الدار وقد حكى قطرب فيها الإعراب. ومما جاء حيث مفعولاً به قوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته}. ألا ترى أن حيث لا يخلو من أن يكون جر ونصباً. فلا يجوز أن يكون جراً لأنه يلزم أن يضاف إليه أفعل، وأفعل إنما يضاف إلى ما هو بعض له، وهذا لا يجوز في هذا الموضع، فلا يجوز أن يكون جراً، وإذا لم يكنه كان نصباً بشيء دل عليه، يعلم أنه مفعول به. والمعنى: الله يعلم مكان رسالاته، وأهل رسالته. فهذا إذن اسم أيضاً. فإن قال قائل: إذا صار اسماً فلم لا يعرب لزواله عن أن يكون ظرفاً؟ قيل: كونه اسماً لا يخرجه عن البناء، ألا ترى أن منذ حرف، فإذا استعملت اسماً في نحو منذ يومان لم تخرج عن البناء. وكذلك عن، وعلى إذا قلت: من عن يمين الخط، وكذلك قول الشاعر الطويل: غدت من عليه وكذلك: كم بنيت في الاستفهام، فإذا صارت خبراً بقيت على بنائها؛ فكذلك حيث إذا صارت اسماً. فأما موضع يكون في قوله: بأذل حيث يكون من يتذلل فجر بأنه صفة حيث، كأنه قال: بأذل موضع يكونه، أي: يكون فيه. فحذف الحرف وأوصل الفعل، فليس بجرٍّ لإضافة حيث إليه، لأن حيث إنما يضاف إلى الفعل إذا كان ظرفاً. فإذا لم يكن ظرفاً لم ينبغ أن يضاف إلى الفعل. وليس حيث في البيت بظرف. وإنما لم يعرب من لم يعربه لأنه جعله بمنزلة ما ومن، في أنهما لم يعربا إذا وصفا وكانا نكرتين. وذاك أن الإضافة في حيث كانت للتخصيص، كما أن الصفة كذلك، فلما جعل اسماً ولم يضف صار لزوم الصفة له للتخصيص بمنزلة لزوم الصلة للتخصيص، فضارع حال الوصف حال الإضافة. ولو جعلت في قوله: بأذل حيث يكون زماناً لم يحسن لأن أفعل هذا بعض ما يضاف إليه. وإذا قلت: هذا أذل رجل، فالمعنى: هذا رجل ذليل، ولا يكاد يقال: زمان ذليل، كما يقال: موضع ذليل. ألا ترى أن الأماكن قد وصفت بالعز، فإذا جاز وصفها بالعز جاز وصفها بخلافه، ولا تكاد تسمع وصف الزمان بالذل. فلا يجوز إذن أن يكون موضع يكون جراً بأنه صفة حيث، ويجعل حيث اسم زمان. انتهى كلام أبي علي. وحاصله: أن أذل أفعل تفضيل مجرور بالكسر، وهو مضاف إلى حيث بمعنى موضع يراد به الكثرة لإبهامه، ولهذا صح إضافة أفعل إليه، إذ لا يضاف أفعل التفضيل إلا إلى ما هو بعضه. وجملة يكون: صفة ل حيث فتكون في محل جر، والعائد إلى الموصوف ضمير نصب محذوف، والأصل: يكون فيه، ففيه خبر يكون ومن يتذلل اسمه، فحذف حرف الجر واتصل الضمير بيكون، فصار يكونه، ثم حذف الضمير فصار يكون، فجملة يكون إلخ، في محل جر، لكونها صفة لحيث لا لكونها مضافاً إليه. وحيث موصوف بالجملة لا مضاف إليها. ولما كان حكم الجملة بعد حيث في الآية حكمها في البيت، نسبهما إلى أبي علي، وإن لم يذكر حكم الجملة بعد حيث في الآية أبو علي. وقال الشارح المحقق: الأولى أن يكون مضافاً، ولا مانع من إضافته، وهو اسمٌ لا ظرف، إلى الجملة كما في ظروف الزمان، وذلك نحو قوله تعالى: {يوم ينفع الصادقين صدقهم}. وعلى هذا أيضاً يكون الخبر محذوفاً يقدر بعد يتذلل، أي: فيه. وقوله: إنا لنضرب رأس كل قبيلةٍ يقول: نحن في الطرف الأعلى من العز، وأنتم في نهاية الذل والعجز. والأتان: أنثى الحمار. ويتقمل: يقتل قمله. وقوله: يهز الهرانع إلخ، تفسير لقوله: يتقمل. ويهز: مضارع وهز يهز هزةً ووهزاً، إذا نزع القملة وقصعها؛ أوله وثالثه زاء معجمة. والهرانع: مفعول يهز مقدم، جمع هرنع بكسر الهاء وسكون الراء المهملة وكسر النون بعدها عين مهملة، وهو القمل، الواحدة هرنعة. قال الشاعر: في رأسه هرانع كالجعلان كذا قال ابن دريد. وقال الليث: الهرنوع، كعصفور: القملة الضخمة، ويقال: هي الصغيرة. وأنشد البيت. فيكون الجمع على حذف الزائد. وقال ابن الأعرابي: الهرنع كقنفذ، والهرنوع: القملة الصغيرة. وعقده فاعل يهز، وهو بفتح العين المهملة وسكون القاف، والضمير راجع لقوله: وأبوك. وفسره ابن حبيب في شرح المناقضات، وابن قتيبة في أبيات المعاني وقالا: يعني عقدة الثلاثين، وهو هيئة تناول القملة بإصبعين: الإبهام والسبابة. ورواه الصاغاني في العباب في مادة وهز عن شمر كذا: يهز الهرانع لا يزال ويفتلي *** بأذل حيث يكون من يتذلل ففاعل يهز على هذا ضمير أبوك. واعلم أن العقود والعقد نوع من الحساب يكون بأصابع اليدين، يقال له: حساب اليد. وقد ورد منه في الحديث: وعقد عقد تسعين. وقد ألفوا فيه كتباً وأراجيز، منها أرجوزة أبي الحسن علي، الشهير بابن المغربي. وقد شرحها عبد القادر بن علي بن شعبان العوفي، ومنها في عقد الثلاثين الرجز: واضممهما عند الثلاثين ترى *** كقابض الإبرة من فوق الثرى قال شارحها: أشار إلى أن الثلاثين تحصل بوضع إبهامك إلى طرف السبابة، أي: جمع طرفيهما كقابض الإبرة. وعند الخصى ظرف لقوله يهز. وقوله: بأذل الباء بمعنى في متعلقة بمحذوف على أنه حال من ضمير عقده. يقول: نحن لعزنا وكثرتنا نحارب كل قبيلة، ونقطع رؤوسها، وأبوك لذله وعجزه يقتل قمله خلف أتانه، فهو يتناول قملة بإصبعه من بين أفخاذه حالة كونه جالساً في أحقر موضع يجلس فيه الذليل، وهو خلف الأتان. فنحن نقتل الأبطال، وأبوك يقتل القمل والصئبان، فشتان ما بيني وبينك. وهذه القصيدة مطلعها: إن الذي سمك السماء بنى لن *** بيتاً دعائمه أعز وأطول ويأتي شرحه أن شاء الله في الصفة المشبهة. وترجمة الفرزدق قد تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: الوافر: نهيتك عن طلابك أم عمرٍو *** بعاقبةٍ وأنت إذٍ صحيح على أن التنوين اللاحق ل إذ عوضٌ عن الجملة، والأصل: وأنت إذ الأمر ذاك، وفي ذلك الوقت. وكذا أورده صاحب الكشاف في سورة ص. استشهد به على أن أوانٍ في قوله: طلبوا صلحنا ولات أوانٍ بني على الكسر تشبيهاً ب إذ، في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض عنه التنوين، وكسر لالتقاء الساكنين. وروي أيضاً: وأنت إذاً صحيح، فيكون التنوين فيه أيضاً عوضاً عن المضاف إليه الجملي عند الشارح المحقق، ويكون الأصل وأنت إذ نهيتك، كما قال في قوله تعالى: {فعلتها إذاً وأنا من الضالين}. والمشهور أنها في مثله للجواب والجزاء. وعليه مشى المرزوقي في شرح الهذليين قال: رواه الباهلي: وأنت إذاً صحيح. وتكون إذاً للحال، كأنه يحكي ما كان. والمراد: وأنت في تلك الحال صحيح. قال ابن جني عند قول الحماسي الوافر: فإنك إن ترى عرصات جملٍ *** بعاقبةٍ فأنت إذاً سعيد قال سيبويه: إن إذاً جوابٌ وجزاء، وإذا كان كذلك ففي الفاء مع ما بعدها الجزاء، فما معنى إذاً؟ فإن ذلك عندي لتوكيد الجزاء، كما أن الياء في قوله الرجز: والدهر بالإنسان دواري لتوكيد الصفة.انتهى. وقوله قبل البيت: وقوله هو بالجر معطوف على مدخول الكافي في قوله تعالى: {وكلاًّ آتينا}. واعلم أن الشارح المحقق قد دقق النظر في نحو: يومئذ فجعل إذ بدلاً من الظرف قبله، فيكون يوم ونحوه غير مضاف إلى إذ. وحينئذ يرد عليه: ما وجه حذف التنوين من الظرف الأول؟ ومن قال بالإضافة كالجمهور فحذف التنوين ظاهر. ويجوز فيه البناء على الفتح والإعراب على حسب العامل. قال ابن السراج في الأصول: واسماء الزمان إذا أضيفت إلى اسم مبني جاز أن تعربها وجاز أن تبنيها، وذلك نحو: يومئذ بالرفع، ويومئذ بالفتح، فيقراً على هذا إن شئت: من عذاب يومئذٍ بالجر، ومن عذاب يومئذٍ بالفتح. اه. وقد قرر الشارح المحقق هذا فيما سيأتي، وتنبه لهذا الاعتراض، فأجاب عنه بأن الإعراب لعروض علة البناء، أعني الإضافة إلى الجمل؛ والبناء لوقوع إذ المبني موقع المضاف إليه لفظاً. وقوله: والذي يبدو لي أن هذه الظروف التي كأنها في الظاهر مضافة إلى إذ ليست مضافة إليه بل إلى الجمل المحذوفة، هذا ممكن في يوم، وحين، فإنهما يجوز إضافتهما إلى الجمل، وقد سمع. وأما ساعة، وليلة، وغداة، وعشية، وعاقبة، فإنها ليست من الظروف التي يجوز إضافتها إلى الجمل؛ لأنه لم يسمع، فكيف يقال إنها تضاف إلى الجمل وإذ بدل منها، فلما حذفت الجملة المضافة إليها إذ عوض التنوين عنها؟ وقد وجد بخط صاحب القاموس، تركيب هذه الظروف مع إذ، قال: لا يضاف إلى إذ من الظروف في كلام العرب غير سبعة ألفاظ، وهي: يومئذ، وحينئذ، وساعتئذ، وليلتئذ، وغداتئذ، وعشيتئذٍ، وعاقبتئذٍ. اه. قيل: ومقتضاه أنه لا يقال وقتئذ، ولا شهرئذ، ولا سنتئذ. وقد ورد أوانئذٍ في شعر الداخل بن حرام الهزلي، قال الوافر: دلفت لها أوانئذٍ بسهمٍ *** حليفٍ لم تخونه الشروج والدليف: سير فيه إبطاء. وحليف: حديد. وتخونه: تنقصه. والشروج: الشقوق والصدوع. وزعم الأخفش أن إذ معرب مجرور بإضافة ما قبله إليه. قال ابن هشام في المغني: وزعم الأخفش أن إذ في ذلك معربة، لزوال افتقارها إلى الجملة، وأن الكسرة إعراب، لأن اليوم مضاف إليها. ورد بأن بناءها لوضعها على حرفين، وبأن الافتقار باق في المعنى، كالموصول تحذف صلته لدليل. قال مجزوء الكامل: نحن الألى فاجمع جمو *** عك ثم جهزهم إلينا أي: نحن الألى عرفوا. وبأن العوض ينزل منزلة المعوض منه، فكان المضاف إليه مذكور؛ وبقوله: وأنت إذ صحيح. وأجاب عن هذا بأن الأصل حينئذ ثم حذف المضاف، وبقي الجر، كقراءة بعضهم: والله يريد الآخرة ، أي: ثواب الآخرة. اه. وهذا مع أنه لا قرينة عليه لا يفيد شيئاً لوجود مقتضى البناء فيه. وقد سها سهواً بيناً شارح شواهد المغني، فقال: البيت استشهد به الأخفش على أن إذٍ معربة لعدم إضافة زمان إليها وقد كسرت. وأجيب بأن الأصل وأنت حينئذ، ثم حذف المضاف وبقي الجر. هذا كلامه. ولا يخفى أن الأخفش لم يستشهد بالبيت، وإنما استشهد به عليه، فأجاب بأن الحين منه محذوف. وهو غير قائل بأن إذ معربة لعدم الإضافة. وقد تكلم ابن جني في سر الصناعة على يومئذ ببيان وافٍ، وإن كان على خلاف طريقة الشارح المحقق، فلا بأس بإيراده مختصراً، قال: من وجوه التنوين أن يلحق عوضاً من الإضافة نحو: يومئذ، وليلتئذ، وساعتئذ، وحينئذ، وكذلك قول الشاعر: وأنت إذٍ صحيح وإنما أصل هذا أن تكون إذ مضافة إلى جملة، نحو: جئتك إذ زيد أمير، وقمت إذا قام زيد، فلما اقتطع المضاف إليه إذ عوض منه التنوين، فدخل وهو ساكن على الذال وهي ساكنة، فكسرت الذال لالتقاء الساكنين، فقيل: يومئذ. وليست الكسرة كسرة إعراب، وإن كانت إذ في موضع جر بإضافة ما قبلها إليها. وإنما الكسرة فيها لسكونها، وسكون التنوين بعدها ويدل على أن الكسر في ذال إذ إنما هي لالتقاء الساكنين، قول الشاعر: وأنت إذٍ صحيح ألا ترى أن إذا ليس فبلها شيء فأما قول أبي الحسن أنه جر إذ لأنه أراد قبلها حين، ثم حذفها، وبقي الجر؛ فساقط. ألا ترى أن الجماعة قد أجمعت على أن إذ وكم، ومن، من الأسماء المبنية على الوقف. وقد قال أبو الحسن نفسه في بعض التعاليق عنه في حاشية الكتاب: بعد كم وإذ من التمكن أن الإعراب لم يدخلهما قط. فهذا تصريح منه ببناء إذ، وهو اللائق به، والأشبه باعتقاده، وذلك القول الذي حكيناه عنه شيء قاله في كتابه الموسوم بمعاني القرآن، وإنما هو شبيه بالسهو منه. على أن أبا علي قد اعتذر له منه بما يكاد يكون عذراً. قلت: أورد هذا العذر في آخر إعراب الحماسة: قال: سألت أبا علي عن قوله: وأنت إذٍ صحيح، فقلت: قد قال أبو الحسن: إنه أراد حينئذ، فهذا تفسير المعنى أم تقدير الإعراب على أن تكون إذ مجرورة بحين المرادة المحذوفة؟ فقال: لا، بل إنما فسر المعنى، ولا يريد أن إذ مجرورة بحين المرادة. والذي قاله أبو علي أجري على مقاييس مذاهب أصحابنا، غير أن كلام أبي الحسن ظاهره هناك أنه يريد ما عدل أبو علي عنه. انتهى. ثم قال ابن جني: ويؤيد ما ذكرته من بناء إذ أنها إذا أضيفت مبنية نحو قوله: إذ الأغلال في أعناقهم ، وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت فإذا في هذا ونحوه مضافة إلى الجمل بعدها، وموضعها نصب، وهي كما ترى مبنية. فإذا كانت في حال إضافتها إلى الجمل كلا إضافة، لأن من حق الإضافة أن تقع على الأفراد فهي إذا لم تضف في اللفظ أصلاً، أجدر باستحقاق البناء. ويزيدك وضوحاً قراءة الكسائي: من عذاب يومئذٍ فبني يوم على الفتح لما أضافه إلى مبني غير متمكن. فإن قيل: بنيت إذ من حيث كانت غايةً منقطعاً منها ما أضيفت إليه، ومن حيث إضافتها إلى جملة تجري الإضافة إليها مجرى لا إضافة، فهلا أعربت لما أضيفت إلى المفرد في نحو قولهم: فعلت إذ ذاك؟ قلت: هذه مغالطة فإن ذاك ليس مجروراً بإضافة إذ إليه، وإنما ذاك مبتدأ حذف خبره تخفيفاً، والتقدير: إذ ذاك كذاك. فالجملة هي التي في موضع الجر. ونظير هذا ما ذهب إليه أبو العباس المبرد في قول الآخر الخفيف: طلبوا صلحنا ولات أوانٍ *** فأجبنا أن ليس حين بقاء وذلك إلى أنه ذهب إلى كسرة أوان ليست إعراباً، ولا أن التنوين الذي بعدها هو التابع لحركات الإعراب، وإنما تقديره عنده أن أوان بمنزلة إذ، في أن حكمه أن يضاف إلى الجملة، نحو: جئتك أوان قام زيد، وأوان الحجاج أميرٍ، أي: إذ ذاك كذاك، فلما حذف المضاف إليه أوان عوض من المضاف إليه تنويناً. والنون عنده كانت في التقدير ساكنة، فلما لقيها التنوين ساكناً كسرت النون لالتقاء الساكنين. وهذا غير مرضي، لأن أواناً قد يضاف إلى الآحاد، نحو قوله الرجز: هذا أوان الشد فاشتدي زيم وقوله: فهذا أوان العرض وغير ذلك. فإن قيل: فإذا كان الأمر كذلك فهلا حركوا التنوين في يومئذ وأوان، ولم حركوا آخره دون التنوين؟ فالجواب: أنهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يقولوا: إذن، فيشبه النون الزائد النون الأصلي؛ ولما أمكنهم أن يفعلوه في أوان، لأنهم لو آثروا إسكان النون لما قدروا على ذلك، لأن الألف ساكنة قبلها؛ وكان يلزمهم من ذلك أن يكسروا النون لسكونها وسكون الألف، ثم يأتي التنوين بعدهما، فكان لا بد أيضاً من أن يقولوا: أوانن. فإن قيل: فلعل على هذا كسرهم النون من أوان إنما هو لسكونها، وسكون الألف قبلها، دون أن يكون كسرهم إياها لسكونها، وسكون التنوين بعدها؟ فالجواب ما تقدم، من كسرهم ذال إذ لسكونها، وسكون التنوين بعدها. فعلى هذا ينبغي أن يحمل كسر النون من أوان، لئلا يختلف الباب. ولأن أوان أيضاً لم ينطق به قبل لحاق التنوين لنونه، فيقدر مكسور النون لسكونها وسكون الألف قبلها، إنما حذف منه المضاف إليه وعوض التنوين عقيب ذلك، فلم يوجد له زمن تلفظ به بلا تنوين، فيلزم القضاء بأن نونه إنما كسرت لسكون الألف قبلها. فاعرف ذلك من مذهب المبرد. وأما الجماعة إلا أبا الحسن والمبرد، فعندها أن أوان مجرورة بلات، وأن ذلك لغة شاذة. انتهى كلام لبن جني. والبيت من مقطوعة تسعة أبيات لأبي ذؤيب الهذلي، أولها الوافر: جمالك أيها القلب القريح *** ستلقى من تحب فتستريح نهيتك عن طلابك أم عمرٍو ***.............. البيت وقلت: تجنبن سخط ابن عمٍّ *** ومطلب شلةٍ وهي الطروح وقوله: جمالك إلخ، قال الإمام المرزوقي في شرحه: يجوز أن يكون المراد: الزم جمالك الذي عرف منك وعهد فيما تدفع إليه وتمتحن به، أي: صبرك المألوف المشهور. ويجوز أن يكون المعنى: تصبر وافعل ما يكون حسناً بك. والمصادر يؤمر بها توسعاً، مضافة ومفردة. وهذا الكلام بعثٌ على ملازمة الحسنى وتحضيض، ووعد النجاح في العقبى وتقريب. وقوله: نهيتك عن طلابك إلخ، قال الإمام المرزوقي: يذكر قلبه بما كان من وعظه له في ابتداء الأمر، وزجره من قبل استحكام الحب، فيقول: دفعتك عن طلب هذه المرأة بعاقبة، أي: بآخر ما وصيتك به. هذا كما تقول لمن تعتب عليه فيما لم يقبله: كان آخر كلامي معك تحذيرك ما تقاسيه الساعة، ولست تريد أن تلك الوصاة كانت مؤخرة عن غيرها، ومردفة سواها، مما هو أهم منها، ولكنه تنبه على أن الكلام كان مقصوراً عليها أولاً وآخراً. ويجوز أن يكون المعنى: نهيتك عن طلبها بذكر ما يفضي أمرك إليه، وتدور عاقبتك عليه، وأنت بعد سليم تقدر على التملس منها، وتملك أمرك وشأنك في حبها. وكأنه كان رأى لتلك الحالة عواقب مذمومة تحصل كل واحدة على طريق البدل من صاحبتها، وكان ذكرها كلها، فلذلك نكر العاقبة. ويجوز أن يريد: نهيتك بعقب ما طلبتها، أي: كما طلبتها زجرتك عن قريب، لأن مبادئ الأمور تكون ضعيفة، فيسهل فيها كثير مما يصعب من بعد، وهذا أقرب الوجوه في نفسي. والعرب تقول: تغير فلانٌ بعاقبة، أي: عن قريب بعقب ما عهد عليه قبل. انتهى. فظهر من هذا أن عاقبة بالقاف والموحدة. وكذا هي في رواية أبي بكر القاري شارح أشعار الهذليين قبل الإمام المرزوقي، وهي عندي بخطه وعليها خطوط علماء العربية. منهم أحمد بن فارس صاحب المجمل في اللغة، وفسرها القاري بقوله: آخر الشأن. والباء على المعاني الثلاثة متعلقة بنهيتك. وحملة وأنت صحيح حال من الكاف في نهيتك. وصحفها الدماميني في الحاشية الهندية على المغني بالفاء والمثناة التحتية، فجعل الباء متعلقة بمحذوف على أنه حال من إحدى الكافين كالجملة الاسمية، وجوز أيضاً أن تكون الباء متعلقة بنهيتك، وقال: أي: نهيتك عن حال عاقبة. والاسمية حال من التاء. أقول: لا يصح كونها حالاً من التاء؛ لأنها صفة للمخاطب لا للمتكلم. فتأمل. وقوله: وقلت تجنبن إلخ، قال الإمام المرزوقي: روي لنا عن الدريدي عن أبي يزيد وعن الزيادي: شلة بضم الشين، قال: وكذا قرأته بخط ذي الرمة. وكذا رواه الباهلي أيضاً. وروي: شلة بفتح الشين، وهما جميعاً من الشل: الطرد، كأنه يعدد ما كان يحذره منه، ويعرفه أن نتائجه كان عالماً بها، فلها ما كان ينفره. والمعنى أن طلبك لها يجلب عليك مراغمة أبناء عمك، ويسوقك إلى التعب فيما يبعد عنك ولا يجدي عليك. والطروح: البعيدة. وروى بعضهم: ونوًى طروح، أي: تطرح أهلها في أقاصي الأرض. وكأنه أراد: ونوى طروح ذاك، لأن القوافي مرفوعة. اه. وترجمة أبي ذؤيب الهذلي تقدمت في الشاهد السابع والستين من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: وهو من شواهد س الطويل: على حين عاتبت المشيب على الصب *** فقلت: ألما تصح والشيب وازع على أنه يجوز إعراب حين بالجر لعدم لزومها للإضافة إلى الجملة، ويجوز بناؤها على الفتح لاكتسابها البناء من إضافتها إلى المبني، وهو جملة عاتبت. وأورده صاحب الكشاف عند قراءة نافع والكسائي: ومن خزي يومئذٍ بفتح الميم، شاهداً على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه. والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني، وقد تقدمت مشروحة بتمامها في الشاهد الخامس والخمسين بعد المائة. وقبل هذا البيت الطويل: فأسبل مني عبرةً فرددته *** على النحر منها مستهلٌّ ودامع وفاعل أسبل ضمير، ذو حسًى في بيت من مطلع القصيدة بضم الحاء والسين المهملتين، وهو بلد في بلاد بن مرة. وعبرة: مفعول أسبل، يقال: أسبل الرجل الماء، أي: صبه. والعبرة، بالفتح: الدمعة. وإنما ردها خوف الفضيحة، فإنه يبكي على دار الحبيب الدارسة، وهو شيخ. وعلى النحر متعلق بأسبل؛ ويجوز أن يتعلق برددتها على وجه. والنحر، موضع القلادة من الصدر، والدمعة تجري على الخدود ثم تسيل منها على النحر. ومستهل: سائل منصب له وقع. ومنه استهلت السماء بالمطر، إذا دام مطرها. ودامع: قاطر. وجملة منها مستهل صفة لعبرة، أي: بعضها مستهل، وبعضها دامع. وقوله: على حين عاتبت إلخ، على بمعنى في، متعلقة بأسبل. وعاتبه على كذا، أي: لامه مع تسخط بسببه. فعلى الصبا متعلق بعاتبت. والصبا، بالكسر والقصر: اسم الصبوة، وهي الميل إلى هوى النفس. والمشيب: الشيب، وهو ابيضاض الشعر المسود، ويأتي بمعنى الدخول في حد الشيب. وقوله: فقلت، أي: للمشيب، معطوف على عاتبت. وجملة: ألما تصح إلخ، مقول القول. والهمزة للإنكار، ولما: جازمة بمعنى لم، وفيها توقع، لأن صحوه متوقع. وتصح مجزوم بحذف الواو، من صحا يصحو، إذا زال سكره. وجملة والشيب وازع: حال من فاعل تصح. ووازع، بالزاي المعجمة: الزاجر والكاف. تقول: وزع يزع، إذا كف فهو وازع، كما يقال: وضع يضع فهو واضع. قال الشاعر الطويل: إذا لم يزع ذا الجهل حلمٌ ولا تقًى *** ففي السيف والتقوى لذي الجهل وازع وروى أبو عبيدة: ألما أصح بالهمزة بدل التاء. وقد تقدمت ترجمة النابغة الذبياني في الشاهد الرابع بعد المائة. وأنشد بعده البسيط: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت *** حمامةٌ في غصونٍ ذات أوقال على أن غيراً بنيت على الفتح لإضافتها إلى مبني، وبينه الشارح المحقق، مع أنها فاعل لم يمنع. وقد روى الرفع أيضاً على الأصل: قال سيبويه في باب ما تكون أن وأنّ مع صلتهما بمنزلة غيرهما من السماء: حدثنا أبو الخطاب أنه سمع من العرب الموثوق بهم من ينشد هذا البيت رفعاً: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت *** البيت وزعموا أن أناساً ينصبون هذا كنصب بعضهم يومئذ في كل موضع، فكذلك غير أن نطقت. وكما قال النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا انتهى. وتقدم شرحه قريباً. وأنشد بعده: ونطعنهم حيث الكلى بعد ضربهم *** ببيض المواضي حيث لي العمائم على أن إضافة حيث إلى مفرد نادرة، فتكون حيث بمعنى مكان، ولي مجرور بإضافة حيث إليه؛ وهو مصدر لوى العمامة على رأسه، أي: ومكان لف العمائم هو الرأس. قال ابن هشام في المغني: وندرت إضافة حيث إلى المفرد كهذا البيت. والكسائي يقيسه. وأندر من ذلك إضافتها إلى جملة محذوفة كقوله الطويل: إذا ريدةٌ من حيث ما نفحت له *** أتاه برياها خليلٌ يواصله أي: إذا ريدة نفحت له من حيث هب، وذلك لأن ريدة فاعل بمحذوف يفسره نفحت، فلو كان نفحت مضافاً إليه حيث لزم بطلان التفسير، إذ المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف، فلا يفسر عاملاٌ فيه. قال أبو الفتح في كتاب التمام: ومن أضاف حيث إلى المفرد أعربها. انتهى. وقال العيني: إن حيث لم يضف في البيت إلى جملة، فيكون معرباً ومحله النصب على الحالية. انتهى. يريد ما ذكره أبو الفتح من أنها إذا أضيفت إلى مفرد أعربت، فتكون منصوبة لفظاً على الظرفية، وعاملها مقدر منصوب على الحالية، كما قالوا مثله في: رأيت الهلال بين السحاب. هذا مراده. وقال شارح شواهد المغني: الصواب أنها ظرف لضرب، لا حال، فإنها ظرف مكان، كما أن تحت ظرف مكان لنطعنهم. ولم يفهم ابن الملا الحلبي في شرح المغني عبارة العيني وزيفها، وهذا كلامه. ومن خطه نقلت: وقول العيني هنا أن حيث حيث لم تضف إلى جملة معربة محلها النصب على الحال، مردود،إذ لا معنى لجعل إعرابها محلياً مع الحكم عليها بأنها معربة. انتهى. وقول شارح أبيات المغني كما أن تحت ظرف مكان لنطعنهم. هذه رواية العيني، أخذها منه، فإن صاحب المغني لم يورد إلا المصراع الثاني. والمشهور في شرح المفصل وغيره أن الرواية حيث الحبا، قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل: يجوز أن يكون حيث مضافاً إلى الحبا على حد حيث: لي العمائم، إلا أنه لا يظهر فيه الإعراب. والحبا: جمع حبوة، وهو أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بعمامته، وقد يحتبي بيديه. وفيها ضم الحاء وفتحها. وقال الجوهري: والجمع حبًى مكسور الأول؛ عن يعقوب. والذي أنشده شيخنا البحراني وكتبه بخطه: الحبا بضم الحاء وبالألف. انتهى. ورواية الشارح المحقق في جميع نسخه: الكلى بدل الحبا. وبهذه الرواية تمم المصراع الدماميني، وتبعه ابن الملا. وهو جمع كلية، والكلوة لغة فيه. وقال ابن السكيت: ولا تقل كلوة، أي: بكسر الكاف. والمراد بالروايات الثلاث الأوساط. ولكلٍّ كليتان، وهما لحمتان لازقتان بعظم الصلب عند الخاصرتين. وقوله: ونطعنهم، قال صاحب المصباح: طعنه بالرمح طعناً من باب قتل. ثم قال: وطعنت فيه بالقول، وطعنت عليه من باب قتل أيضاً ومن باب نفع لغة. وأجاز الفراء يطعن في جميع معانيه بالفتح، لمكان حرف الحلق. وفي القاموس: طعنه بالرمح كمنعه ونصره طعناً: ضربه، وفيه بالقول طعناً. وقال شارح أبيات المغني: يقال: طعنه بالرمح يطعنه بالضم في المضارع، وكذا كل ما هو حسي. وأما المنوي كيطعن في النسب فبفتح العين. وقوله: بعد ضربهم مصدر مضاف إلى المفعول؛ والفاعل محذوف، أي: ضربنا إياهم. وقوله: ببيض المواضي، بالكسر: جمع أبيض، وهو السيف. والمواضي: جمع ماض، وهو القاطع الحاد، والإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة. وقال العيني: البيض بفتح الباء: الحديد. والمواضي: السيوف. أراد ضربهم بحديد السيوف في رؤوسهم. ويجوز كسر الباء إلى آخر ما ذكرنا. ولا ينبغي لمثله أن يسود وجه الورق الأبيض بهذه الترهات. وهذا البيت لم يعرف له قائل. قال ابن المستوفي: هذا البيت لا يحسن أن يكون من باب ما يفتخر به، لأنهم إذا ضربوهم مكان لي العمائم، ولم يموتوا، واحتاجوا إلى أن يطعنوهم مكان الحبا - وعادة الشجاع أن يأتي بالضرب بعد الطعن - فهذا منهم فعل جبان خائف غير متمكن من قتل قرنه. وإنما الجيد قول بلعاء بن قيس، من بني ليث بن كنانة البسيط: وفارسٍ في غمرات الموت منغمسٍ *** إذا تألى علة مكروهةٍ صدقا غشيته وهو في جأواء باسلةٍ *** غضباً أصاب سواء الرأس فانفلقا بضربةٍ لم تكن مني مخالسة *** ولا تعجلتها جبناً ولا فرقا فانظر كيف وصف قرنه بما وصف به، ووصف موضعه وبالغ في وصفهما، ووصف ضربته بما يدل على جرأته وشجاعته. انتهى. هذا ولم يورد الزمخشري في المفصل هذا البيت بتمامه، وإنما قال: وقد روى ابن الأعرابي بيتاً، عجزه: حيث لي العمائم قال التبريزي في شرح الكافية: إنما لم ينشد البيت بتمامه للاختلاف في صدره، فبعضهم رواه كما ذكر، وبعضهم قال: صدره: ونحن سقينا الموت بالسيف معقل *** وقد كان منهم حيث لي العمائم انتهى. وقال ابن المستوفي: وما أنشده ابن الأعرابي، فقد قال الأندلسي: وجدت أنا تمامه في بعض حواشي المفصل، وهو: ونحن قتلنا بالشآم مغفل *** وقد كان منا حيث لي العمائم قال: ولا أعلم صحته. وأوله على ما أنشدنيه شيخنا محمد بن يوسف البحراني: ونطعنهم حيث الحبا بعد ضربهم ***.............. البيت ولم يتممه بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل إلا بقوله: ونحن سقينا الموت بالشآم معقل *** وقد كان منكم حيث لي العمائم وقال: المعنى ونحن سقينا هذا الرجل، وهو معقل، كأس الموت بهذه البلدة، وقتلناه، وقد كان هذا الرجل منكم فوق الرؤوس منكم، أي: كان رئيسكم وعالياً عليكم. وقال بعض الشارحين: معناه قد كان المعقل منكم، وهو الملجأ، في مكان لي العمائم، وهو الرأس. وهذا ليس بظاهر. انتهى. وهذا البيت أيضاً لم يعرف قائله. أقول: البيت الذي رواه ابن الأعرابي غير ذينك البيتين. قال الصاغاني في العباب: وروى ابن الأعرابي بيت كثير الطويل: وهاجرةٍ يا عز يلطف حره *** لركبانها من حيث لي العمائم نصبت لها وجهي وعزة تتقي *** بجلبابها والستر لفح السمائم ويروى: من تحت لوث العمائم ولعل الزمخشري لم ينشده لرجحان الرواية الثانية عنده. وأما البيت الذي أنشده صاحب المغني، هو: إذا ريدةٌ من حيث ما نفحت له *** إلخ فهو لأبي حية النميري: شاعر إسلامي أدرك الدولة الأموية والعباسية. توفي سنة بضع وثمانين ومائة. والريدة، براء مهملة مفتوحة ومثناة تحتية بعدها دال: الريح اللينة الهبوب. ونفحت: هبت. والريا: الرائحة. وقد أورد أبو علي هذا البيت في الإيضاح الشعري وتكلم عليه فيه، ولم يظفر به أحد من شراح المغني، فلا بأس بإيراده. قال: وصف أبو حية النميري بهذا البيت حماراً. يقال: ريح رادة وريدة وريدانة: اللينة. ورياها: ريحها. وخليل، يعني: أنفه. يقول: تأتيه الريح لتنسمه إياها بأنفه. فإذا هذه، هي التي هي ظرف من الزمان، لأن المعنى: إذا نفحت ريح تنسمها. وإذا كانت كذلك كانت ريدة مرتفعة بفعل مضمر يفسره نفحت، مثل: إذا السماء انشقت ، ونحو ذلك، ومن متعلقة بالمحذوف الذي فسره نفحت. وما أضيف إليه حيث محذوف كما يحذف ما يضاف إليه إذ في يومئذٍ للدلالة عليه، وأنه قد علم أن المعنى إذا نفحت من حيث ما نفحت. وإن شئت قلت: إن حيث مضافة إلى نفحت، وريدة مرتفعة بفعل مضمر دل عليه نفحت، وإن كان قد أضيف إليه حيث، كما دل عليه الفعل الذي في صلة أن في قولك: لو أنك جئتني لأكرمتك، وأغنى عنه. فكذلك هذا الفعل المضاف إليها حيث أغنى عن ذلك الفعل لما دل عليه، كما قلنا في لو. ألا ترى أن المضاف إليه مثل ما بعد الاسم الموصول، في أن كل واحد منهما لا يعمل فيما قبله. ومع ذلك فقد أغنى الفعل الذي في صلة أن عن الفعل الذي يقتضيه لو، وإن كان قبل الصلة. فكذلك الفعل المضاف إليه حيث. انتهى بكلامه وحروفه. وما تكون زائدة في التوجيهين. ونقل عن ابن مالك في التوجيه الأول عوض عن الجملة المحذوفة، كالتنوين الذي في حينئذ. وبالتوجيه الثاني يسقط قول ابن هشام: فلو كانت نفحة مضافاً إليه لزم بطلان التفسير، إذ المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف. ويتأيد قول الدماميني في الحاشية الهندية: لا مانع من كون نفحت مضافاً إليه مع جعله مفسراً. وما استند إليه منظور فيه، لأن الظاهر من كلامهم أن امتناع تفسير ما لا يعمل مخصوص بباب الاشتغال. وأنشد بعده أما ترى حيث سهيلٍ طالعا وبعده: نجماً يضيء كالشهاب ساطعا على أن حيث مضافةٌ إلى مفرد بندرة، وسهيل مجرور بإضافة حيث إليه. وفي هذه الصورة يجوز بناء حيث وإعرابها. وروي: برفع سهيل على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي: موجود، فتكون حيث مبنية مضافة إلى الجملة، وهي هنا على كل تقدير وقعت مفعولاً لترى، لا ظرفاً له. هذا محصل كلام الشارح المحقق. قال أبو علي في إيضاح الشعر: هذا البيت أنشده الكسائي وجعل حيث اسماً ولم يعربه، لأن كونه اسماً لا يخرجه عن البناء، كقوله تعالى: {من لدن حكيمٍ خبير}. يريد أن موضع حيث النصب بترى، فإن قلت: إن حيث إنما جاء اسماً في الشعر، وقد يجوز أن تجعل الظروف أسماءً في الشعر. فالجواب أن ذلك قد جاء اسماً في غير الشعر. وقد حكى أحمد بن يحيى عن بعض أصحابه أنهم قالوا: هي أحسن الناس حيث نظر ناظرٌ، يعني الوجه. فهذا قد جاء في الكلام. ومما جاء مفعولاً به قوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} كما تقدم. وقال أبو حيان في الارتشاف: مذهب البصريين أنه لا يجوز إضافتها إلى المفرد، وما سمع من ذلك نحو: الطويل حيث لي العمائم نادر. وأجاز الكسائي الإضافة إلى المفرد قياساً على ما سمع من إضافتها إلى المفرد. ولا يخفى أن إعراب هذا الشعر مشكل. والذي أراه أن الرؤية بصرية، وأن حيث: مفعول به لترى، وسهيل: مجرور بإضافة حيث إليه، وطالعاً: حال من سهيل. ومجيء الحال من المضاف إليه، وإن كان قليلاً، فقد ورد منه كثيرٌ في الشعر. قال تأبط شراً: الطويل سلبت سلاحي بائساً وشتمتني *** فيا خير مسلوبٍ ويا شر سالب فبائساً: حالٌ من الياء. قال أبو علي في المسائل الشيرازيات: قد جاء الحال من المضاف إليه في نحو ما أنشده أبو زيد: الكامل عوذٌ وبهثةٌ حاشدون عليهم *** حلق الحديد مضاعفاً يتلهب ومضاعفاً: حال من الحديد. وقال الشاطبي في شرح الألفية: مثل هذا إنما يكون على توهم إسقاط المضاف، اعتباراً بصحة الكلام دونه. ومن هنا أجاز الفارسي في قول الشاعر: الطويل أرى رجلاً منهم أسيفاً كأنم *** يضم إلى كشحيه كفاً مخضبا أن يكون مخضباً حالاً من الهاء في كشحيه، وهو مضاف، ولكنه في تقدير: يضم إليه، لأنه إذا ضمه إلى كشحيه فقد ضمه إليه، فكأنه قال: يضم إليه، فهو في التقدير حال من المجرور بحرفٍ، وهو جائزٌ كما تقدم. وكذلك جعل مضاعفاً من قوله: حلق الحديد مضاعفاً يتلهب حالاً من الحديد. وكذلك المعنى هنا، فجاء طالعاً حالاً من سهيل على توهم أنه مفعول وسقوط حيث، فيكون نجماً على هذا بياناً لسهيل وبدلاً منه. ويجوز أن يكون منصوباً على المدح. ونقل الدماميني في الحاشية الهندية عن شارح اللباب أن طالعاً: مفعول به ثان لترى، وحال من سهيل، إن جعلت حيث صلة، بمنزلة مقام في قوله: الوافر نفيت عنه مقام الذئب وإن لم يجعل صلة يكون حالاً، والعامل معنى الإضافة، أي: مكاناً مختصاً بسهيل حال كونه طالعاً. ويجوز أن يكون حيث في البيت باقياً على الظرفية، وحذف مفعول ترى نسياً كأنه قيل: أما تحدث الرؤية في مكان سهيل طالعاً، قلت: جعل العامل معنى الإضافة غير مرضي عندهم، وكذا القول بزيادة حيث، والأولى أن تجعل الحال من ضميرٍ يعود إلى سهيل، حذف هو وعامله للدلالة عليه، أي: تراه طالعاً. هذا كلام الدماميني. وقال اللبلي في شرح أدب الكاتب: من جر سهيل نصب طالعاً حالاً من حيث، لأن الحال من المضاف إليه ضعيفة. والتقدير: حيث سهيل طالعاً فيه، وحيث مفعول ترى. وإن جعلت ترى بمعنى تعلم، كان طالباً مفعولاً ثانياً. ولا يجوز أن يكون حيث ظرفاً لفساد المعنى. وقال العيني: حيث معرب إما منصوبٌ على الظرفية وعلى المفعولية، ويكون ترى علمية مفعوله الأول حيث، ومفعوله الثاني طالعاً، وتكون ترى بصرية، فتكون حيث: مفعولاً به، وطالعاً: حالاً من حيث، لا من سهيل لأن الحال من المضاف إليه ضعيفة. هذا كلامه. وأما إن رفع سهيل فطالعاً حالٌ من ضمير خبر سهيل، ونجماً منصوب على المدح. وسهيلٌ: نجمٌ عند طلوعه تنضج الفواكه، وينقضي القيظ. والشهاب: شعلة من نار ساطعة، أي: مرتفعة، فيكون ساطعاً: حالاً مؤكدة. والهمزة في أما للاستفهام. وهذا الشعر لم أعرف قائله، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقال التبريزي في شرح الكافية الحاجبية: وأما قوله: البسيط وأنني حيث ما يدني الهوى بصري *** من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور فمن جوز إضافته إلى المفرد فما: مصدرية، أي: من حيث السلوك. ومن لا يجوز يجعله في محل المبتدأ وخبره محذوف، فيكون مضافاً إلى الجملة، وما زائدة. وقال أبو حيان في الارتشاف: والجملة التي تضاف إليها حيث شرطها أن تكون خبرية اسمية، وفعلية، مثبتة، مصدرة بماض، ومضارع مثبتين، ومنفيين بلم، ولا. فأما قوله من حيث ما سلكوا فما زائدة. وأنشد بعده: الطويل لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم هذا صدر، وعجزه: فشد ولم تفرغ بيوتٌ كثيرةٌ على أن حيث المضافة إلى الجملة والمفرد، قد تفارق الظرفية، فتجر، كما في البيت، فإنها في موضع جر بإضافة لدى إليها، وقد تنصب على المفعولية كما في قوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته}. وقد تنصب على التمييز كما في: هي أحسن الناس حيث نظر ناظرٌ، يعني وجهاً. قال ابن هشام في المغني: والغالب كونها في محل نصب على الظرفية، وخفض بمن، وقد تخفض بغيرها كقوله: لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم وقد تقع مفعولاً به وفاقاً للفارسي، وحمل عليه: الله أعلم حيث يجعل رسالاته ، إذ المعنى أنه تعالى يعلم نفس المكان المستحق لوضع الرسالة فيه لا شيئاً في المكان. وناصبها يعلم محذوفاً مدلولاً عليه بأعلم لا بأعلم نفسه، لأن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به. فإن أولته بعالم جاز أن ينصبه في رأي بعضهم. ولم تقع اسماً لإن، خلافاً لابن مالك، ولا دليل له في قوله: الخفيف إن حيث استقر من أنت راعي *** ه حمًى فيه عزةٌ وأمان لجواز تقدير حيث خبراً، وحمى اسماً. فإن قيل: يؤدي إلى جعل المكان حالاً في المكان. قلنا: هو نظير قولك: إن في مكة دار زيد. ونظيره في الزمان: إن في يوم الجمعة ساعة الإجابة. وقوله: والغالب كونها في محل نصب على الظرفية وخفض بمن، بقي عليه خفضها بالباء وبغيرها. قال أبو حيان في الارتشاف: إنها جرت بمن كثيراً، وبفي شاذاً، نحو: الطويل فأصبح في حيث التقينا شريدهم وبعلى. قال: الطويل سلامٌ بني عمرٍو على حيث هامكم وبالباء، نحو: الخفيف كان منا بحيث يعكى الإزار وبإلى، نحو: إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم وأضيفت لدى إليها في قوله: لدى حيث ألقت رحلها . وتمام الدليل في الآية أن يقال: لا يجوز أن تكون حيث، ظرفاً، لأن علم الله لا يختص بمكان دون مكان. ولا يجوز أن تكون مجرورة بإضافة أعلم إليها، لأنها ليست بصفة، وهي شرطٌ في إضافة أفعل التفضيل. ولا يجوز أن تكون منصوبة به، لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في الظاهر. وإذا بطل ذلك تعين أن يكون منصوباً على المفعول به، بفعل مقدر، دل عليه أعلم، أي: الله أعلم يعلم حيث يجعل، كقوله: الطويل وأضرب منا بالسيوف القوانسا أي: أضرب منا يضرب القوانس بالسيوف. وجوز السفاقسي أن تكون باقية على الظرفية، قال: فإنه لا مانع من عمل أعلم في الظرف. والذي يظهر لي أنه باق على ظرفيته، والإشكال إنما يرد من حيث مفهوم الظرف، وكم موضع ترك فيه المفهوم لقيام الدليل على تركه. وقد قدم الدليل القاطع في هذا الموضع. وقوله: لا دليل له في قوله إن حيث استقر إلخ، يريد أن حيث فيه: ظرف، وهو خبر مقدم، وحمى: اسم إن مؤخر كقولهم: إن عندك زيداً. ويرد عليه أن هذا الحمل غير مراد، وإنما المعنى: إن مكاناً استقر فيه جماعةٌ أنت راعيهم وحافظهم، هو حمًى فيه العزة والأمان. فتأمل. والحمى: المكان المحمي من المكروه. وقد ذكر أبو حيان في تذكرته أن حيث: تقع اسماً لكأن، وتقع مبتدأ، وأورد مسائل تمرين لحيث، فلا بأس بإيرادها هنا، قال: إذا قيل: حيث نلتقي طيبٌ؛ حكم على حيث بالرفع، لأنه اسم المكان الذي خبره طيب، وهو نائب عن موضعين أسبقهما محدود، خبره طيب، وآخرهما مجهول ناصبه نلتقي، تلخيصه: الموضع الذي نلتقي فيه طيب. وقال الشاعر: الرجز كأن حيث نلتقي منه المحل *** من جانبيه وعلان ووعل ثلاثةً أشرفن في طودٍ عتل أنشد هذا الشعر هشام، وقال: ثلاثة خبر كأن. وإذا قيل: إن حيث زيد ضربت عمراً، ففيها وجهان: رفع زيد ونصب عمرو، ونصب زيد وعمرو. فعلى الأول أبطل إن في ظاهر الكلام، ونصب عمراً بضربت، ورفع زيداً بحيث لنيابة زيد عن محلين أسبقهما يطلبه الضرب وآخرهما يرفع زيداً، وتقديرها: إن في المكان الذي فيه زيد ضربت زيداً. والكسائي يقول: ليس لإن اسم، ولا خبر. لأنها مبطلة عن ضربت، إذ لم تكن من عوامل الأفعال. والبصريون يضمرون الهاء مع إن، ويجعلون الجملة الخبر. والفراء يقول: ضربت، سد مسد ضارباً أنا. وقال هشام: يقال: حيث زيدٌ عمروٌ، بفتح الثاء ورفع زيد وعمرو، وحيث زيدٍ عمرو بفتح الثاء وخفض زيد. وأما الفتح مع رفع زيد فمفارقٌ للقياس، يجري مجرى قول من يقول: حيث زيدٍ عمرو، فيضم الثاء ويخفض بها زيداً، قال: أما ترى حيث سهيلٍ طالعاً وقد حكوا عن العرب حيث سهيلٍ بضم الثاء وخفض سهيل، وهو فاسد العلة، لأن ضم الثاء يوجب رفع سهيل، كما أن فتح الثاء يوجب به خفض سهيل. ولا ينبغي أن يبنى إلا على الأكثر، والأعرف والأصح علة. وإذا قيل: إن حيث أبوك كان أخوك، رفع الأخ بكان وحيث خبر كان، والأب رفع بحيث لنيابتها عن محلين أحدهما خبر كان، والآخر رافع الأب، وإن مبطلة عن كان، والتقدير: إن في المكان الذي فيه أبوك كان أخوك. ويجوز إن حيث أبوك كان أخاك، فأخاك اسم إن وحيث خبر إن، وأبوك رفع بالراجع من كان، وحيث خبر كان، والتقدير: إن أخاك في المكان الذي كان فيه أبوك. وإذا قيل: إن حيث أبوك قائم أخاك جالس، نصب الأخ بإن وجالس خبر إن، ورفع قائم بالأب، وحيث نائبة عن محلين: أحدهما: صلة الجالس وهو الأسبق، وآخرها صلة قائم. ويجوز: إن حيث أبوك قائماً أخاك جالس، الأخ وجالس على ما كانا عليه والجواب الأول، وقائماً نصبٌ على الحال من أبيك، وحيث متضمنة لمحلين أولهما صلة الجالس وآخرهما رفع للأب. ويجوز: إن حيث أبوك قائماً أخاك جالساً، أخاك: اسم إن وحيث خبر إن، وهي رافع الأب. وقائماً: حال الأب، وجالساً: حال الأخ. ويجوز: إن حيث أبوك قائم أخاك جالساً، أخاك: اسم إن، وحيث متضمن محلين أولهما خبر إن وآخرهما صلة قائم، وقائم رفع بأبيك، وجالساً نصب على الحال من أخيك. وإن فتحت ثاء حيث وأضيفت، قيل: إن حيث أبيك قائماً أخاك جالسٌ وجالساً، على التفسير المتقدم. انتهى ما أورده أبو حيان. وقال في الارتشاف: لم يجىء فاعلاً، ولا مفعولاً به، ولا مبتدأ. وقد فرع الكوفيون صوراً على حيث، منها: حيث نلتقي طيب. ثم ذكر بعض ما أورده في التذكرة. والبيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، ولا بد من إيراد شيء مما قبله ليتضح معناه وهذه أبيات مما قبله ومما بعده: لعمري لنعم الحي جر عليهم *** بما لا يؤتيهم حصين بن ضمضم وكان طوى كشحاً على مستكنةٍ *** فلا هو أبداها ولم يتقدم وقال: سأقضي حاجتي ثم أتقي *** عدوي بألفٍ من ورائي ملجم فشد ولم تفزع بيوتٌ كثيرةٌ *** لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم لدى أسدٍ شاكي السلاح مقذفٍ *** له لبدٌ أظفاره لم تقلم جريءٍ متى يظلم يعاقب بظلمه *** سريعاً وإلا يبد بالظلم يظلم أراد بالحي حي مرة من بني ذبيان. وجر: فعل ماض من الجريرة، وهي الجناية. ويواتيهم: يوافقهم. وحصين بن ضمضم: هو ابن عم النابغة الذبياني، وكانت جنايته أنه لما اصطلحت قبيلة ذبيان مع قبيلة عبس، امتنع حصينٌ هذا من الصلح، واستتر من القبيلتين، لأن ورد بن حابس العبسي كان قتل هرم بن ضمضم، وهو أخو حصين، فحلف حصينٌ لا يغسل رأسه حتى يقتل ورد ورجلاً منهم. ثم أقبل رجلٌ من بني عبس، فنزل بحصين بن ضمضم، فلما علم أنه عبسي قتله، فكاد الصلح ينتقض، فسعى بالصلح، وتحمل الدية الحارث بن عوف وهرم بن سنان المريين. ولهذا مدحهم زهير بقوله: لنعم الحي. وقد تقدم الكلام على هذه القصيدة وعلى سببها مفصلاً في الشاهد السادس والخمسين بعد المائة. وقوله: وكان طوى كشحاً إلخ، اسم كان ضمير حصين. والكشح: الخاصرة، يقال: طوى كشحه على كذا، أي: أضمره في نفسه. والمستكنة: المستترة. أي: أضمر على غدرةٍ مستترة. وقوله: فلا هو أبداها ، أي: ما أظهر الغدرة المستكنة، ولا تقدم فيها قبل الصلح. وروى: ولم يتجمجم: بجيمين، أي: لم يتنهنه عما أراد مما كتم. وقال الأعلم: أي: لم يدع التقدم فيما أضمر، ولم يتردد في إنفاذه. وشرح هذين البيتين تقدم في الشاهد السادس والأربعين بعد المائتين. وقوله: وقال سأقضي حاجتي إلخ، فاعل قال: ضمير حصين. وحاجته: ما كان أضمره في نفسه من قتل عبسي، وورائي، أي: أمامي كقوله تعالى: {وكان وراءهم ملكٌ}، وقوله: ومن ورائه عذابٌ . وملجم: يروى بكسر الجيم، أي: بألف فارس ملجم فرسه. ويروى بفتح الجيم، أي: بألف فرس ملجم، وأراد بها فرسانها. قال الأعلم: أي سأدرك ثأري، ثم ألقى عدوي بألف فارس، أي: أجعلهم بيني وبين عدوي. يقال: اتقاه بحقه، أي، جعله بينه وبينه. وجعل ملجماً على لفظ ألف فذكره، ولو كان في غير الشعر لجاز تأنيثه على المعنى. وذلك لأن فرساً مما يذكر ويؤنث. وقوله: فشد إلخ، أي: حمل حصينٌ على ذلك الرجل العبسي فقتله، ولم تفزع بيوت كثيرة، أي: لم يعلم أكثر قومه بفعله، وأراد بالبيوت أحياءً وقبائل. يقول: لو علموا بفعله لفزعوا، أي: لأغاثوا الرجل العبسي ولم يدعوا حصيناً يقتله. وإنما أراد زهير بقوله هذا أن لا يفسدوا صلحهم بفعله. وقوله: حيث ألقت رحلها ، أي: حيث كان شدة الأمر، يعني موضع الحرب. وأم قشعم: كنية الحرب، ويقال: كنية المنية. والمعنى: أن حصيناً شد على الرجل العبسي فقتله بعد الصلح، وحين حطمت رحلها الرحب ووضعت أوزارها وسكنت. ويقال: هو دعاء على حصين، أي: عدا على الرجل العبسي بعد الصلح، وخالف الجماعة، فصيره الله إلى هذه الشدة ويكون معنى ألقت رحلها على هذا: ثبتت وتمكنت. هذا كلام الأعلم في شرح الأشعار الستة. وتفزع على روايته بالبناء للفاعل. وقال التبريزي في شرح المعلقة: معناه شد على عدوه وحده فقتله، ولم تفزع العامة بطلب واحد وإنما قصد الثأر، أي: لم يستعن على قتله بأحد. ونقل صعوداء في شرح ديوان زهير عن قوم: أن أم قشعم على هذه الرواية هي أم حصين، أي: فلم تفزع البيوت التي بحضرة بيت أمه، لأنه أخذ ثأره. فلدى على قول الأعلم ظرف متعلق بشد، وعلى قول صعوداء يكون لدى متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ثانية لبيوت، وحالٌ منه. وروى الزوزني: ولم يفزع بيوتاً ، على أن فاعله ضمير حصين، وقال: أي: لم يتعرض لغيره عند ملقى رحل المنية. وملقى الرحال: المنزل، لأن المسافر يلقي به رحله، أي أثاثه ومتاعه. أراد: عند منزل المنية. وجعله منزل المنية لحلولها فيه. فعلى هذا يكون لدى متعلقاً بتفزع مضارع أفزعه، أي: أخافه، بخلاف الأول فإنه مضارع بمعنى أغاث وعلم. والمشهور رواية فشد ولم ينظر بيوتاً كثيرة فيكون فاعل ينظر أيضاً ضمير حصين، ثم اختلفوا، فرواه صعوداء بفتح أوله، وقال: لم ينظر، أي: لم ينتظر، يقال: نظرت الرجل، أي: انتظرته. وعلى هذا يكون المعنى: لم ينتظر حصين أن ينصره قومه على أخذ ثأره. وروى أبو جعفر: ولم ينظر ، بضم أوله وكسر ثالثه، وقال: معناه: لم يؤخر حصينٌ أهل بيت قاتل أخيه في قتله، لكنه عجل فقتله. فيكون ينظر مضارع أنظره، بمعنى أمهله وأخره. وعلى هذين الوجهين يكون لدى متعلقاً بشد، وكذلك على قول من فسر أم قشعم بالعنكبوت، وهو أبو عبيدة، وبالضبع، كما نقله صعوداء. ويكون المعنى: فشد على صاحب ثأره بمضيعةٍ من الأرض. قال صعوداء: أم قشعم عند الأصمعي: الحرب الشديدة. ومن جعلها العنكبوت والضبع فمعناه وجده بمضيعةٍ فقتله. وقال ابن الأثير في المرصع: أم قشعم هي المنية، والداهية، والحرب، والنسر، والعنكبوت، والضبع، والذئب، واللبؤة، وفسر بأحد هذه الأشياء. قال زهير: لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم هذا كلامه. وقشعم: فعلمٌ من قشعت الريح التراب فانقشع، وأقشع القوم عن الشيء، وتقشعوا، إذا تفرقوا عنه وتركوه. وقوله: لدى أسدٍ شاكي السلاح إلخ، هذا البيت في الظاهر غير مرتبط بما قبله، ولا يعرف متعلق لدى أسدٍ. وقد فحصت عنه فلم أجد من ربطه بما قبله مع أنه من أبيات علم المعاني، أورد شاهداً لجواز الجمع بين التجريد والترشيح. وقد رجعت إلى معاهد التنصيص للعباسي، فلم أر فيه غير هذه الأبيات، ولم يتكلم عليها بشيءٍ، ففزعت إلى قريحتي، وأعملت الفكرة، فأرشدني الله إلى وجهه، وهو أن لدى أسد متعلق بألقت رحلها أم قشعم، على تفسير أم قشعم بالحرب، ومعنى ألقت رحلها: حطت رحلها الحرب ووضعت أوزارها وسكنت، فيكون الإلقاء عبارة عن السكون والهدوء، كما قال الشاعر: الطويل فألقت عصاها واستقر بها النوى *** كما قر عيناً بالإياب المسافر ويكون المراد من الأسد الحارث بن عوفٍ المري، فإنه هو الذي أطفأ نار الحرب بين عبس وذبيان، بعد ما جرى بينهما في يوم داحس، وسعى في الصلح بينهما بتحمل الديات مع ابن عمه هرم بن سنان المري. وعلى هذا يتضح الارتباط، ويضمحل ما فسر به أم قشعم من سائر المعاني، ولله الحمد والمنة. وقال الزوزني: البيت كله من صفة حصين بن ضمضم. وقال الأعلم والتبريزي أراد بقوله: لدى أسد: الجيش. وحمل لفظ البيت على الأسد. ولا يخفى أنه لا يصح الارتباط بكل من هذين القولين. وقوله: شاكي السلاح وهو مقلوب شائك كما بين في الصرف، أي: سلاحه شائكة حديدة ذات شوكة. والمقذف، بصيغة اسم المفعول، قال الأعلم وأبو جعفر: هو الغليظ الكثير اللحم، فيكون ترشيحاً. كقوله: له لبدٌ إلخ. وقال الزوزني: أي: يقذف به كثيراً إلى الوقائع والحروب فعلى هذا يكون تجريداً كشاكي السلاح. وروى صعوداء والتبريزي: مقاذف بكسر الذال وفسراه: بمرامٍ، أي: يرامى بنفسه في الحروب. وهذا تجريد أيضاً. وقوله: له لبد ، هو بكسر اللام وفتح الموحدة، جمع لبدة. قال الأعلم: اللبدة: زبرة الأسد. والزبرة: شعر متلبد متراكب بين كتفي الأسد إذا أسن. وأراد بالأظفار السلاح. يقول: سلاحه تام، حديد. وأول من كنى بالأظفار عن السلاح أوس بن حجر في قوله: الطويل لعمرك إنا والأحاليف هؤل *** لفي حقبةٍ أظفارها لم تقلم ثم تبعه زهيرٌ، والنابغة في قوله: الكامل آتوك غير مقلمي الأظفار وقوله: جريء هو وصف أسد، ويظلم الأول ويبد كلاهما بالبناء للمفعول، ويعاقب ويظلم الثاني بالبناء للفاعل. قال الأعلم: قوله وإلا يبد بالظلم إلخ. يقول: إن لم يظلم بدأهم بالظلم، لعزة نفسه وجراءته. ومتى جازم لفعلين. وسريعاً إما حال من ضمير يعاقب، وإما مفعول مطلق، أي: عقاباً سريعاً. ويبد أصله يبدأ بالهمزة، فأبدلها ألفاً ثم حذفت الألف للجازم. وقد أورده الشارح المحقق في أول شرح الشافية لما ذكرنا. وترجمة زهير بن أبي سلمى تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة. وأنشد بعده:
|